بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 أبريل 2015

كلام السيد محمد حسين فضل الله بحق السيد محمد باقر الصدر


ليس من السهل أن نتحدث عن شخصية إسلامية بحجم «السيد محمد باقر الصدر»، الذي أعطى الإسلام الفكر الذي استطاع أن يفتح للتفكير الإسلامي أفقاً جديداً لم يعهد من قبل، في التفسير العميق للمفاهيم الإسلامية في حركة الإنسان في الحياة، وفي التأصيل المنهجي للمذهب الاقتصادي في الإسلام، والانفتاح على واقع الإنسان كله، في عملية تزاوج حركي بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان في حركة الوجود، في مسؤوليته التي يتكامل فيها تكويناً أو إرادةً بين يدي الله، واستخلاص المفهوم الذي يحدّد للإنسان علاقته بالطبيعة، ومنها الأرض، وعلاقته بالإنسان الآخر، وعلاقته بالله من خلال التفاعل بين هاتين العلاقتين.

ثم انطلق ليكتشف السنن التاريخية في القرآن، لينطلق الإنسان في حركة التاريخ، وفي عمق هذا التاريخ في وجدان إسلامي، ليشعر بأن الإنسان لا يمكن حتى وهو يمارس الفوضى، إلا أن تكون الفوضى خاضعةً لنظام، باعتبار أن هناك سنناً تاريخية تحكم الإنسان، وتمثل الخطوط العامة للحركة الإنسانية بالطريقة التي تنطلق منه شعورياً، كما تنطلق منه بطريقة لا شعورية، لأن مسألة القوانين الحتمية التي أودعها الله في الكون وحرّكها في الحياة، ليست دائماً حالة شعورية في الكائن الحي، بل قد تنطلق لتحكمه من خلال نظام دقيق يمكن أن تكون للإرادة فيه بعض الشيء، بحيث يتحرك في السنة التاريخية، لتكون إرادته جزءاً من هذه السنة. لقد اكتشف الشهيد الصدر بعضاً من هذا وأصل بعضاً من ذاك، واستطاع أن يتحرك بالاكتشاف إلى قاعدةٍ للتأصيل هنا، وأن يطلق القاعدة المؤصلة من أجل اكتشافات جديدة.

ومن هنا، فقد شعرنا ونحن معه، ونحن بعده، أن الفكر الإسلامي كان شيئاً قبل أن يأتي السيد محمد باقر الصدر، وصار شيئاً آخر بعد أن جاء وودع الحياة. ولم يكن السيد محمد باقر الصدر إنساناً يفكر بالمطلق، أو إنساناً يعيش في صومعة العلم ليجلس بين مفرداته، ليكتشف منها ما يكتشف، وليؤصل منها ما يؤصل، ولكنه كان إنسان المسؤولية في الحياة، كان يرى أن الإسلام ليس مجرد فكر يمكن لك أن تملأ به الكتب، وأن تملأ به النوادي العلمية والثقافية، ولكن الإسلام انطلق منذ أن انطلق في قلب النبي محمد(صلى الله عليه و آله) والصحابة معه وأهل بيته، قرآناً يتحرك في الوعي، ويقرأ باللسان، كما انطلق حركةً يتجسد فيها القرآن في كل جوانب الحياة السلبية والإيجابية. ولهذا، كان القرآن كتاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وكان ينزل في كل مشكلة تواجه المسلمين ليحلها بعد أن تتفاعل المشكلة في كيانهم.

لم تكن حركية السيد محمد باقر الصدر في الخط الإسلامي السياسي منطلقةً من حالة تقليدية ينتمي فيها إنسان إلى حركة إسلامية هنا أو هناك بشكل تقليديّ، كانت روحه حركةً، ولذلك عندما كنا معه، كان يعيش قلق المعرفة لمنهجية الحركة الإسلامية في الواقع.. فكان يبحث هنا وهناك كيف يمكن أن تتجمع خصائص الحركة الإسلامية في الواقع الذي يعيش فيه، وكيف تواجه أساليب الحركة الإسلامية الواقع الجديد بطرق جديدة تختلف عما كان عليه الحركيون الإسلاميون منذ انطلاقة الدعوة، لأننا عندما ننطلق في معطيات الواقع وفي خصوصيات الواقع، فإننا لا نستطيع أن ننقل كل مفردات الأساليب الإسلامية في عهد الدعوة لنكررها في عهدنا الآن.

قصة الأسلوب ليست فكراً في المطلق حتى نأخذ الأسلوب كما تحرك في حروب المسلمين أو في طريقة الدعوة أو في سلمهم أو في علاقاتهم، نحن نأخذ الخطوط العامة، أما التفاصيل، فلهم تفاصيلهم التي انطلقت من خلال ظروفهم، ولنا تفاصيلنا التي تفرضها ظروفنا، ولهذا قد يختلف أسلوب الكلمة عندنا عن أسلوب الكلمة عندهم، لأن الذهنية الثقافية في عهدهم تختلف عن الذهنية الثقافية في عهدنا في نقاط الضعف ونقاط القوة. لقد كانت أدوات التحدي هناك تختلف عن أدوات التحدي هنا، كان هناك في الماضي أناس لم ينتظموا في نظام، ولم يأخذوا بالأساليب الحركية، بينما نواجه الآن أناساً يعيشون طريقة في التنظيم، وطريقة في الحركة، وطريقة في أسلوب المخابرات، وطريقة في أسلوب السياسة وفي أسلوب الحرب والسلم، تختلف بتفاصيلها عن التفاصيل الأخرى، لذلك من يرد أن يطلق حركة إسلامية في المرحلة الحاضرة، فإنه لا يستطيع أن يبحث عن مفردات الحركة الإسلامية بجزئياتها في الماضي، ولكن بإمكانه أن يأخذ الخطوط العامة، أما حركة التجربة وواقعها، فإن ذلك لا بد له من أن ينطلق من الواقع.

لقد كان السيد الشهيد يعيش قلق المعرفة، وكان يحاول أن يقرأ المجتمع، ولهذا كان يعمل على أن يلتقط التجربة ممن عاشوا المجتمع وعرفوا مفرداته واتجاهاته واطلعوا على مفاهيمه في الواقع، وكان يملك الذهنية الحادة التي تلتقط الفكرة من بعيد حتى كأنها تعيش بين يديه، وكان يلتقط الملاحظة الدقيقة وكأنها بارزة بين يديه. ومن هناك، كان السيد محمد باقر الصدر لا يعيش فرقاً بين ما يقرأ وبين ما يعيشه الآخرون، فهو ينطلق بالقراءة، القراءة بالكتاب، أو القراءة من خلال الانطباعات التي يكونها الآخرون، ليفهم المجتمع كأفضل ما يكون الفهم. وهكذا رسم الحركة الإسلامية، وبدأ التخطيط لها فكرياً، ثم حركها عملياً، فواجه التحديات من خلالها، حتى كانت شهادته قمة حركيته، وكانت شهادته العنوان الكبير للإنسان الذي يجاهد بالفكر كما يجاهد في أرض المعركة.

وهكذا كان الإنسان الذي كتب المستقبل بدمه، بعد أن كتب الفكر الإسلامي بقلمه، وقلة هم الذين يتناسب حبر دمائهم مع حبر أقلامهم، لينطلقا معاً ليكونا حركة الحياة فكراً وجهاداً ومستقبلاً حياً يؤذن بالنصر ولو بعد حين. عندما نلتقي هنا بعد خمسة عشر عاماً من شهادته، فإننا نريد أن نعيش بعض فكره، وأن نناقش بعض فكره، ونريد أن ينطلق الجيل الجديد في الاتجاه الذي انطلق منه فكره، لأننا لا نريد أن نتجمد عند الكبار من شخصياتنا، بل نريدهم أن يكونوا المنطلق لإبداع جديد لجيل جديد، ولا نريد لهم في وعينا أن يكونوا النهاية لحركتنا في الفكر وفي الإبداع.

لقد أطلق الشهيد الصدر الحركة والمسيرة في الأرض، وعلينا أن نتابعها بأساليب جديدة، وقد أطلق الفكر الإسلامي في الوجدان الإسلامي، وعلينا أن ننطلق به في إبداع جديد وفي تجارب فكرية جديدة.

*ندوة فكرية مع «سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله»، وذلك في قاعة الجنان ـ طريق مطار بيروت ، بتاريخ 18-4-1995م، لمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لاستشهاد المفكر الإسلامي الكبير «الشهيد السيد محمد باقر الصدر»، تحت عنوان "الشهيد الصدر والفكر السياسي في الإسلام".